لقد رأيت من الواجب والمناسب أن أكتب هذه الحلقات تحت هذا العنوان ، لأنني أعتقد أن الأقصى المبارك يمر في أخطر اللحظات خلال هذه الحقبة الأخيرة من تاريخه ، وما عدا سراً أن هناك أصوات مسيحية صهيونية باتت تطالب بهدم الأقصى المبارك وبناء هيكل على أنقاضه ، وما عدا سراً أن هناك مباحثات تجري في أكثر من دولة بين أطراف عربية وصهيونية حول مستقبل الأقصى المبارك والهيكل المزعوم ، وعليه فلا بد من يقظة كل المسلمين وكل العرب على هذه المخاطر ، ولا شك أن بداية اليقظة هي الوعي الناضج الذي يعرف جيداً ما هو الأقصى المبارك !! في كل أبعاده التاريخية والدينية والحضارية والعمرانية ، وما هو حال الأقصى المبارك حاضراً ؟ كيف عاش ماضيه ؟ ماذا ينتظره في المستقبل ؟ ما هي المخاطر التي اجتمعت عليه وتداعت بقدها وقديدها مما جعلنا نصرخ في كل المسلمين والعرب أن " الأقصى في خطر " !!
بداية سأتحدث عن بداية بناء الأقصى المبارك عبر تاريخه الطويل ، مبيناً بالدليل الواضح أن القول بوجود هيكل أول أو ثان كان تحت الأقصى المبارك ما هو إلا أسطورة وزعم كاذب عن سبق إصرار يهدف إلى تأسيس حق سياسي باطل لليهود في الحرم الأقصى المبارك !!
1. روى البخاري في صحيحه : " عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّ ، فإن الفضل فيه " .
كما هو واضح من هذا الحديث الصحيح أن بناء المسجد الأقصى تم بعد بناء المسجد الحرام بأربعين عام ، فإذا حددنا زمن بناء المسجد الحرام فإننا نستطيع أن نحدد زمن بناء المسجد الأقصى ، فمن الذي بنى المسجد الحرام ؟ ومتى بني المسجد الحرام ؟
هناك روايات تؤكد أن أول من بنى المسجد الحرام هو آدم عليه السلام ، وعليه فإن أول بناء كان للمسجد الأقصى على عهد آدم عليه السلام ، أو في عهد أبنائه . قال ابن حجر : " فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم ثم أنتشر ولده في الأرض ، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس " ، وقال ابن حجر : " وقد وجدت ما يشهد ويؤيد قول من قال : أن آدم هو الذي أسس كلا من المسجدين ، فذكر ابن هشام في كتاب " التيجان " أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس ، وأن يبنيه ، فبناه ونسك فيه " ، وهذا يعني أن المسجد الأقصى بني قبل إبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام ، وهذا يعني أن المسجد الأقصى كان أول بناء بني في كل أرض الشام بشكل عام وكان أول بناء بني على أرض القدس الشريف بشكل خاص ، وهذا يعني أن المسجد الأقصى بني في القدس الشريف قبل وجود أي كنيس أو كنيسة أو مسجد فيها ، وهذا يعني أن المسجد الأقصى كان قبل وجود تاريخ بني إسرائيل بشكل عام وكان قبل وجود قبيلة يهودا وتاريخ اليهود بشكل خاص ، وهذا يعني أن المستحيل في تفكير كل عاقل أن يكون هناك بناء حجر أو بناء كان تحت المسجد الأقصى .
هكذا بني المسجد الأقصى ، وهكذا بدأ تاريخ وجوده الأساس والأول على وجه الأرض قاطبة ، ومنذ ذلك التاريخ ظل المسجد الأقصى بقعة مباركة ترعاها يد الأنبياء والأولياء والرسل والعباد ، وتتعهد المسجد الأقصى بالعناية والإعمار وبتحديد البناء أو تحسينه كلما لزم الأمر ، وظل المسجد الأقصى هو المسجد الأقصى كما بناه آدم عليه السلام حصناً للإيمان وقلعة للعبادة ، وفي هذا الموضوع على وجه الخصوص يقول الأستاذ محمد حسن شراب في كتابه " بيت المقدس والمسجد الأقصى " : " وقداسة هذه البقعة ( المسجد الأقصى ) لم تكن لنبي من الأنبياء ، ولا لأمة من الأمم ، فقد أختارها الله منذ خلق الخلق لعبادته أن تكون معبداً للمؤمنين الموحدين ، ويدل على قدم التقديس ما جاء في حديث أبو ذر ، أنها ثاني موضع أختاره الله للعبادة ، وقول الله تعالى في قصة إبراهيم وهجرته إلى فلسطين { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } ، ومعنى هذا أن البركة كانت فيها قبل إبراهيم عليه السلام ، كما أن قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا .. } ، يدل على أ، الله تعالى باركه منذ الأزل ، وأن الله تعالى أسرى بعبده إليه ليجدد تذكير الناس ببركته وتقديسه " .
2. قد يظن ظان أن أول من بنى المسجد الحرام هو نبي الله إبراهيم عليه السلام ، قد يفهم أن المسجد الأقصى بني على عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام نقف على بطلان هذا الظن ، بل على العكس نجد أن الأدلة تؤكد أن نبي الله إبراهيم عليه السلام ، كان بعد بناء المسجد الحرام أي بعد بناء المسجد الأقصى ، وأن ما قام به نبي الله إبراهيم عليه السلام هو رفع قواعد المسجد الحرام التي كانت موجودة من قبل ، بمعنى أنه لم يكن أول من بنى المسجد الحرام وبمعنى آخر أنه لم يكن هو الذي بنى المسجد الأقصى .
روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس حديثاً طويلاً مرفوعاً ، في قصة هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام ، ومن ضمن ما ورد في هذا الحديث الطويل : " فأنطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه واستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال : { ربنا أني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم .. } ، فالسياق يدل كما هو واضح أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه بهذا الدعاء يوم أن ترك ابنه إسماعيل رضيعاً ، ونصوص القرآن تثبت أن رفع القواعد من البيت كان بعد أن وصل إسماعيل سن الشباب ، حيث ساعد أباه في البناء ، فقوله : { عند بيتك المحرم .. } يدل على أن البيت w كان موجوداً يوم وضع إبراهيم ابنه إسماعيل – عليهما السلام – رضيعاً ، بمعنى أن هذا الدليل يؤكد أن المسجد الحرام كان قبل إبراهيم عليه السلام ، مما يؤكد أ، المسجد الأقصى كان قبل إبراهيم عليه السلام كذلك " .
ومن ضمن ما ورد في هذا الحديث الطويل " فإذا هي– أي هاجر – بالملك عند موضع زمزم ، فبحثه بعقبه ، أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف … قال : فشربت وأرضعت ولدها .. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذه عن يمينه وشماله " ، فقوله وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية " يدل على أن المسجد الحرام كان قبل إبراهيم عليه السلام ، مما يؤكد أن المسجد الأقصى كان قبل إبراهيم عليه السلام كذلك .
ومن الواضح لكل عاقل أ، كل ذلك يعني أن المسجد الأقصى كان قبل سليمان وداود عليهما السلام ، وكان قبل تاريخ بني إسرائيل عامة وقبل تاريخ اليهود بشكل خاص .
3. ما يؤكد على كل ما قلته رواية النسائي عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الديلمي عن عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " .. أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله ثلاثاً .. وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد .. " ، فهي رواية صحيحة وهي رواية تبين أن سليمان عليه السلام بنى المسجد ، وإذا ما راجعنا هذه الرواية نجد أن أحد الأمور الثلاثة التي سألها سليمان ربه " .. أيما خرج رجل من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته ، مثل يوم ولدته أمه .. " ، فواضح أ، الرواية تعود وتؤكد على مصطلح " المسجد " ، فجائز أن يكون هو " مسجد " آخر غير المسجد الأقصى ، وجائز أن يكون هو المسجد الأقصى المبارك ، ووفق الاحتمال الثاني فهذا يعني أن نبي الله سليمان عليه السلام قام ببناء وتوسعة للمسجد الأقصى الذي كان قائماً منذ آدم عليه السلام ، ولم يقم نبي الله سليمان عليه السلام ببناء تأسيسي للمسجد الأقصى المبارك ، فكما أن إبراهيم عليه السلام قام برفع قواعد المسجد الحرام بعد أن كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام ، فإن سليمان عليه السلام قام بتجديد وتوسعة للمسجد الأقصى بعد أن كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام .
4. وعليه أؤكد بوضوح لا غموض فيه أن كل إدعاء بوجود هيكل أول أو ثان تحت المسجد الأقصى أو في حرمه هو ادعاء باطل ، وكل ادعاء بوجود حق لغير المسلمين في المسجد الأقصى هو ادعاء باطل ، وكل ادعاء بوجود بقايا بناء آخر تحت المسجد الأقصى أو في حرمه هو ادعاء باطل سواء سموا هذا الادعاء الباطل باسم " حائط المبكى " أو سموا هذا الادعاء الباطل باسم " باب خلدة " أو باسم " نفق الحشمونائيم " ، فكل هذه الادعاءات باطلة ، فحائط المبكى في تسميته الصحيحة هو " حائط البراق " وباب خلدة هو أحد أبواب الأقصى المبارك ، وكلمة خلدة لا محل لها من الإعراب ، وكذلك " نفق الحشمونائيم " تسمية باطلة لا تثبت حقاً لغير المسلمين ، ولنا توسعة في هذه النقطة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى .
أخطاء شائعة عن المسجد الأقصى
إن مما يُلاحَظُ على العامة والخاصة على حد سواء ، أخطاء شائعة حول المسجد الأقصى ، وقد يعود أصل هذه الأخطاء إلى شدة شغف أهل الديانات الثلاث : الإسلام ، والمسيحية واليهودية إلى هذا المكان ، وكلٌّ منهم له اعتقاده الخاص بهذا المكان ، فضلا عن المسميات والمصطلحات الخاصة بكل ديانة مما أدَّى إلى تداخلها وتأثر بعض المسلمين بها .
ولما أَرَّخَ المؤرخون ، وكتبوا تاريخ هذه المدينة العريقة ، كتبوا الغَثَّ والسمين ، وكلٌّ ذهب حسب مشربه واعتقاده كما أسلفنا ، فضلا عمن كان له دور من المستشرقين اليهود في تزييف التاريخ ، وقلب الحقائق لتدل في النهاية ، وتصب في مصلحة دولتهم المزعومة .
لهذا كان لزاما علينا أن نوضح بعض الأخطاء الشائعة عن المسجد الأقصى حرسه الله ، ومنها:
1) لا يفرق الناس بين قبة الصخرة ومصلى المسجد الأقصى ( انظر الصورة في الأعلى ) ، وعلى ما يبدو وكما أشار بعض الباحثين المعاصرين ان مراد اليهود من ذلك هو تعليق الناس بما لا قداسة فيه حتى لو أرادوا هدم المسجد الأقصى لا يعبأ المسلمون بما يصنعه اليهود .
2) أن الساحة التي تشمل مُصَلَّى المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمسطبات وغيرها من قباب وأسبلة وأشجار هي واقعة تحت اسم المسجد الأقصى ، وليس البناء الذي يسمى الآن المسجد الأقصى ، بل هو مصلى المسجد الأقصى وجزء من المسجد ليس إلاّ
3) ليس هناك أي فضل من أثر صحيح يُذْكَر ، أو مزية خاصة للصخرة الموجودة تحت ما يسمى الآن بقبة الصخرة ( المذَهَّبَة ) ، بل هي جزء من المسجد الأقصى .
4) ليس هناك دليل صحيح على أنَّ مَنْ حج عليه أنْ يُقدِّس حجته بزيارة المسجد الأقصى .
5) الصخرة : لقد حكيت حول هذه الصخرة حكايات تعدد ت مصادرها منها :
أ ) زعموا ان مياه الأرض كلها تخرج من تحت المسجد الأقصى .
ب) ويدعون أنها معلقة بين السماء والأرض .
ج) كما ان الصلاة تحتها له فضل خاص .
د ) ويقولون ان النبي e لما عرج به إلى السماء ارتفعت معه e فأمرها بالبقاء .
هـ) ويزعمون أن النبي e صلى تحتها ومعه مجموعة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
و ) ليس هناك أي فضل من أثر صحيح يُذْكَر ، أو مزية خاصة للصخرة الموجودة تحت ما يسمى الآن بقبة الصخرة ( المذَهَّبَة ) ، بل هي جزء من المسجد الأقصى .
وغيرها كثير من الخرافات التي لا أصل لها من الشريعة .
6) محراب داود : اعتقادا من العامة ان النبي داود عليه السلام هو الذي بناه وانه كان يصلي عنده ، وهو الآن في صدر مصلى الأقصى ، والصحيح انه بني في عهد عبد الملك بن مروان ويبدوا ان الناس تأولوا نسبته إلى داود عليه السلام وهو مما لا شك فيه ان نسبة هذه الآثار إلى أنبياء بني إسرائيل هو مطمع يصبوا إليه اليهود ليضيفوا إلى رصيدهم من الأدلة التي تثبت حقهم على هذه الأرض زورا وبهتانا خاصة إذا كانت الحقيقة مغايرة للواقع.
7) اصطبلات سليمان ( سابقا ) - المصلى المرواني ( حاليا ) : وهو الذي يقع اسفل الجهة الجنوبية الشرقية من مصلى المسجد الأقصى والذي يبلغ مساحته
تقريبا ( 3750 ) متر مربع يعتقد كثير من الناس ان هذا المكان من بناء سيدنا سليمان عليه السلام ، وهذا من التلبيس والدس الذي يستعمله اليهود ، حتى تنسب لهم فيما بعد لتكون شاهدا على وجودهم على هذه البقعة منذ الأزل ، والصحيح أنها من بناء الأمويين كما اثبت أهل الآثار ، بناها عبد الملك بن مروان لتكون اصطبلات لخيولهم وبيوتا للحمام الزاجل ، وقد أصر المسلمون بإعادة افتتاحه وتحويله الى مصلى أطلقوا عليه – المصلى المرواني – نسبة إلى مؤسسه الحقيقي ، وقد احسنوا في ذلك .
يقال عن الحائط الذي يسميه المسلمون البراق ، نسبة إلى ربط البراق الذي ركبه النبي e في إسرائه إلى المسجد الأقصى ، ولم يثبت دليل صحيح على أن البراق رُبِطَ عند هذا الحائط بعينه ، و فضلا عن ذلك يسميه بعض الناس بحائط المبكى ، وهي تسمية يهودية لهذا المكان لأنه باعتقادهم جزء باقٍ من الهيكل .
9) " حِطَّة " من أبواب المسجد الأقصى : يعتقد العامة أنَّهُ سُمِّيَ بذلك لأن الله لما أمر بني إسرائيل بدخول المسجد الأقصى أمرهم أن يقولوا ( حِطَّة ) فقالوا ( حِنْطَة ) ، وأنهم دخلوا من هذا الباب ، وهذا لم يثبت .
10) لم يثبت في أجر الصلاة من الأحاديث الصحيحة إلا ما يعدل 250 صلاة وما عدا ذلك فضعيف لا يصح .
11) أن المشاع حول مسجد عمر رضي الله عنه ( الواقع بالقرب من كنيسة القيامة ) انه لما أتى عمر – رضي الله عنه - بيت المقدس فاتحا ، أراد أن يصلي بالكنيسة ، فرفض حتى لا تتخذ بعده أو يُطالَب بها المسلمون سُنَّة فصلى في مكان خارج المسجد الأقصى وهذا لا يصح سندا ولا متنا ، فكيف يصلي في الكنيسة أو خارج المسجد وهو قريب من المسجد الأقصى وليس بينه وبينه إلا بضعة أمتار .
12) قولهم : ( ثالث الحرمين ) عن المسجد الأقصى عبارة غير دقيقة من حيث الاصطلاح الشرعي لان الحرم هو : ما يَحْرُمُ صيدُه وشجره ، أما بيت المقدس فانه لا يَحْرُم صيده ولا شجره ، كما هو الحال في الحرمين الشريفين مكة والمدينة وذلك باتفاق العلماء .
13) ( حائط البراق الشريف ) مقولة دارجة على لسان وكتب المثقفين فضلا عن عوام المسلمين ، وكلمة الشريف العائدة لهذا الحائط فيها تخصيص وتكريم مميز لهذا الحائط ، وهذا المكان مشرف ببركة عامة دون تخصيص جزء على جزء من نواحي المسجد الأقصى ، وهذا فضلا عن أن البركة الواردة لهذا المكان إنما هي له كموقع وليست البركة في حجارة بُنِيَ منها المسجد الأقصى .
والله أعلم